مقالة الشيخ كمال خطيب: “إسلامك يناديك فلبّ النداء”

الشيخ كمال خطيب
توبة الصالح فريدة
إنهما طريقان لا ثالث لهما، طريق للهدى وطريق للضلال والهوى، وطريق للحق وطريق للباطل. أما طريق الحق والهدى فقد أمرنا ربنا سبحانه أن نتّبعه بعد أن عرّفنا ودلّنا عليه {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} آية 153 سورة الأنعام، بل إننا في كل صلاة نصليها وركعة نركعها، فإننا ندعوه ونرجوه سبحانه لما نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} آية 6 سورة الفاتحة. أما طريق الهوى والباطل والضلال فقد أمرنا ربنا سبحانه أن نخالفه ولا نسير فيه {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} آية 26 سورة ص.
إن طريق الهدى والحق الذي أمرنا الله سبحانه باتباعه والسير فيه، فلأنه هو الطريق الذي يوصل إلى رضى الله والجنة رغم مشقته وصعوبته. أما طريق الهوى والضلال والباطل، فإنه الطريق الذي نهانا الله أن نسير فيه وأمرنا بمخالفته لأنه الطريق الذي يوصل إلى سخط الله وإلى النار رغم سهولته ويُسر المسير فيه. فطريق الهدى والحق محفوف بالمكاره والآلام أما طريق الهوى والباطل فإنه محفوف بالشهوات والمغريات والأهواء، وقد قال في ذلك النبي ﷺ: “حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات”.
إن من عادة كثير من الناس حيث يعتبرون ذلك من الوجاهة ومن علوّ المقام والمرتبة، أنهم لا يحبون بل لا يقبلون السير إلا في مقدمة الموكب ولا الجلوس إلا في الصف الأول وفي صدر المجلس، فهناك يجدون أنفسهم يرضون عن ذاتهم حين يتقدّمون على غيرهم حتى لو كان الموكب الذي يسيرون فيه وفي أوله هو موكب باطل، ولو كان المجلس الذي يجلسون في الصف الأول فيه هو مجلس باطل، ويرون أن العيب والانتقاص ودنوّ المنزلة أن يجلسوا على أطراف المجلس أو أن يسيروا في آخر الموكب.
وكم كانت عظيمة تلك الخاطرة التي يقول صاحبها: “لأن أكون تابعًا بالحق أحبّ إليّ من أن أكون رأسًا في الباطل”. فليست العبرة في أن تكون في مقدمة الموكب أو آخره أو أن تجلس في الصدر أو عند الباب، وإنما المهم هو هل الموكب الذي تجلس فيه موكب هدى أو موكب هوى؟ والمجلس الذي تجلس فيه هل هو مجلس حقّ أم مجلس باطل ونفاق؟
فيجب أن يحرص الإنسان منا أن يظلّ في طريق الحقّ والهدى والخير، فلا يزيغ ولا يضلّ، وليس مهما بعدها أن يكون في أول الموكب أو آخره، وليس مهمًا أن تكون رأسًا قائدًا أو أن تكون جنديًا تابعًا، بل خادمًا وفي آخر الصفوف، في موكب صفّ الهدى والخير والحق، فهو خير بمليون مرة من أن تكون رأسًا في الباطل والهوى فتكون عندها قد فزت برأس الباطل لكنك ستكون قد خسرت دنياك وآخرتك ومصيرك والعياذ بالله في قعر جهنم مع فرعون وهامان والنمرود وكسرى وترامب وغيرهم من الطواغيت والجبابرة.
ومن أجمل ما ذكر في اتباع الحقّ وأن تكون في آخر موكبه على أن تكون في رأس موكب الباطل، تلك القصة التي يرويها الأستاذ محمد أحمد الراشد رحمه الله في كتاب فضائح الفتن عن المرحوم الأستاذ صالح العشماوي، وكان من جيل التأسيس مع الإمام الشهيد حسن البنا لجماعة الإخوان المسلمين وكان من قدماء الدعاة ومن الرعيل الأول: “فلما اغتال الإنجليز بالتنسيق مع مخابرات الملك فاروق الإمام حسن البنا يوم 12/2/1949 فكان بعدها أن اختلطت الأوراق واشتبهت أمور وتحرّكت وساوس وافتتن البعض، وجعلوا الأستاذ صالح عشماوي رأسًا عليهم في مواجهة الجماعة، وكان يقف على رأسها المرحوم حسن الهضيبي.
مرّت سنوات وطالت المحنة فتبيّن بعدها للأستاذ صالح طريق الهدى من طريق الهوى فندم على ما كان منه ورجع إلى صفّ الجماعة لكنه أراد أن يؤدّب نفسه، فلم يقبل إلا أن يكون بوابًا على باب الشقة التي فيها مكتب جماعة الإخوان.
يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد: وقد زرت دار مجلة الدعوة يومًا فوجدت شيخًا وقورًا يجلس بتواضع على كرسي خيزران قديم خارج باب الشقة كأنه بواب لكنه مهيب وله طلعة نورانية، فسلّمت عليه واستأذنته فأذن فدخلت، فقال لي أخ ممن هناك: هل عرفت ذلك الرجل المحترم الذي كأنه بوّاب؟ قلت: لا ولكنه استرعى اهتمامي، قال: ذاك صالح عشماوي يرى أن نفسه استروحت يوم جعله المشاكسون رأسًا ونادوا به أميرًا وعزم على أن يرجع جنديًا في آخر الصفّ ويصرّ على أن ذلك من تمام توبته، فاختار أن يكون بوابًا، يلغي بذلك ما سلف منه من تطلع للصدارة، فعجبت ودهشت لهذه الروح الصافية والقلب الكبير. ثم قال لنا الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله: دعونا له ودعوناه أن يكون أخًا لنا يشارك كالآخرين ويتوب الله على من تاب ولكنه أبى ورفض، وأصررنا وبلغنا غاية الجهد في إقناعه لكنه أصرّ إصرارًا على أن يعاقب نفسه بالتأخير. ثم خطبنا الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله بعد سنوات فقال: لقد تاب الأستاذ صالح عشماوي توبة أحسبها لو وزّعت على دعاة الإسلام في القاهرة لكفتهم رحمهم الله جميعًا وعصمنا من الفتن بعدهم”.
إسلامك يناديك فلبّ النداء
فرغم أن طريق الهدى والحقّ يوصل إلى رضى الله والجنة، ورغم أن طريق الهوى والباطل يوصل إلى سخط الله والنار، إلا أنك تستهجن وتستغرب إِلى حدّ الحيرة عندما ترى أهل الضلال والهوى والباطل ينفقون أموالهم، ويبذلون أوقاتهم بل ويقدّمون أرواحهم رخيصة من أجل الباطل الذي يؤمنون به ويدافعون عنه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} آية 36 سورة الأنفال، بينما ترى وتجد أهل الحقّ يبخلون بأموالهم ويضنّون بأوقاتهم عن نصرة الحقّ مع أنها هي التجارة الرابحة والصفقة النافعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} آية 111 سورة التوبة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} آية 10 سورة الصف.
إن عطاء وبذل أهل الباطل لباطلهم هو ما استعاذ منه سيدنا عمر بن الخطاب وكأنه كان يعلم أن هذا الحال ستمرّ به الأمة، فقال: “اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلَد الفاجر”.
بل إن القعود عن نصرة الإسلام والحقّ هو العيب والعار كما قال الصحابي الجليل المبشّر بالجنة طلحة بن عبيد الله: “إن أقلّ العيب على المرء أن يجلس في داره”.
بل إن القعود عن نصرة الاسلام والحقّ والدفاع عنه هو علامة البلادة ودليل استراحة العقل في فهم أحمد بن حنبل في سجنه حين قال لابن عمه الذي جاء ينصحه بالتراجع عن موقفه في قضية خلق القرآن ليكون هذا التراجع سببًا في إطلاق سراحه من السجن، فقال له مقرعًا وموبخًا: “لعلّ عقلك قد استراح يا أبا سعيد”.
إن القعود عن نصرة الإسلام ومحاولة تبرير ذلك فإنها من الترّهات كما قال أحد الصالحين: “هو بذل الروح وإلا فإنها الترّهات”.
بل إن المروءة توجب عليك أن تنتصر للإسلام وتنحاز له مهما كان الثمن، كما قال محمد إقبال في وصف المؤمن الصادق:
حديد إذا ما طغى باطل جرى لدى المعارك المؤمن
بل إنه من عدم المروءة أن يرى المسلم الإسلام يحارب ويعادى ولا ينتصر له، كما قال ابن العراق وليد الأعظمي:
إن نفسًا ترتضي الإسلام دينًا ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينًا ثم ترضى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
بل إن من المروءة أن توقف نفسك وكلّك للإسلام كما هي الأرض الوقف تكون كل منافعها لمن أوقفت له، وكما أوقف إبراهيم الخليل نفسه لله لما قال {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*َلَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }162-163 سورة الأنعام.
لا بل إن نصرة الإسلام والتفاني في البذل له وخدمته كما قال ابن العراق الفاضل محمد أحمد الراشد: “إنه يتوجب علينا أن نخبر الفتاة التي نخطبها لتكون لنا زوجة بأن مكثنا معها سيكون قليلًا لأن أعباء الدعوة وخدمة الإسلام وانشغالنا به ستمنعنا من إطالة الجلوس في البيوت”.
لا يكن حذاؤك أغلى من دينك
قال ابن القيم رحمه الله: “على قدر ثبوت العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في الدنيا يكون ثبات قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم”.
ولأن كل مسلم يعتقد أن هناك طريقًا مضروبًا فوق جهنم سيعبر منه كل الخلائق ويمرون عليه كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} آية 71 سورة مريم. وكما قال ﷺ: “فيمرّون على الصراط والصراط كحدّ السيف، دحض منزلة، قال: فيقال انجوا على قدر نوركم، فمنهم من يمرّ كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمرّ كالطرف، ومنهم من يمرّ كالريح، ومنهم من يمرّ كشد الرجل ويرمل رملًا فيمرّون على قدر أعمالهم حتى يمرّ الذي نوره على إبهام قدمه يجرّ يدًا ويعلق يدًا، ويجرّ رجلًا ويعلّق رجلًا فتصيب جوانبه النار”.
فالمعادلة واضحة وضوح الشمس، فإن استقامة المسلم في الدنيا وثباته على طريق الهدى ونصرة الإسلام وثباته عليه، هو مقدمة وعلامة ثباته على طريق جهنم يوم القيامة {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} آية 27 سورة إبراهيم.
فمن أراد أن يثبت على الطريق التي فوق جهنم ولا يزلّ في النار، فليثبت في الدنيا على طريق الهدى ولا يتراقص ويتأرجح مع كل الأفكار والأهواء والمبادئ والشعارات البرّاقة، ولا يتلاعب به هواه كما تتلاعب الريح بالقشة والريشة فيكون كالإمّعة يومًا مع هؤلاء ويومًا مع هؤلاء، والنبي ﷺ نهى أن يكون المسلم إمّعة: “لا يكن أحدكم إمّعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا”.
وكيف يثبت على الصراط -الطريق المضروب فوق جهنم- في الآخرة من لم يثبت على طريق الإسلام في الدنيا بل من انحاز إلى صفّ أعداء الإسلام ولم تحرّكه نخوة الدين وهو يرى الإسلام جريًحا مطعونًا مخذولًا ثم لا ينتصر له، كما قال مالك بن دينار: “فقد رضيت لأحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله”.
إننا نرى المسلم في هذا الزمان يشتري الحذاء من أفخم الماركات ويتعهده دائمًا بالرعاية ليظلّ على بريقه ولمعانه فلا يتلف ولا يتغيّر لونه، وهو لا يحرص بنفس الحرص على قلبه الذي يعلوه الصدأ ويتغيّر من البياض إلى السواد من كثرة الذنوب، بينما هو لا يحرص بنفس الحرص بل وأقل منه على دينه وإيمانه، فيتقلّب كل يوم ويضع كل يوم على وجهه قناعًا يتلاءم مع مصلحته لا مع مصلحة الإسلام، بل وصل الأمر إلى الحدّ كما قال الأستاذ خالد أبو شادي المسجون في سجون السيسي الدموي: “سرق اللصوص بيته فبكى شهرًا وسرق الشيطان قلبه فما انتبه”.
احرص على الارتقاء أكثر من الترقية
قيل في حكمة جميلة: “لو وعده مديره بترقية في المنصب لواصل عمله بالليل والنهار، فكيف بوعد من لا يخلف الميعاد بجنة عرضها السماوات والأرض”.
نعم إذا وعدك مديرك أو مسؤولك بترقية، عملت وبذلت وسهرت حتى تتعب قدماك ويعتلّ جسدك، فكيف بمن وعدك بارتقاء في الجنة، قال النبي ﷺ: “يقال لقارئ القرآن: اقرأ ورتّل وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن آخر منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها”.
وإذا كنت في الدنيا تستجيب لطلب مديرك أو مسؤولك فتنفّذ كل ما يريد وما يطلب منك لتبلغ وترتقي في المنصب، فإن حبيبك ﷺ يبشّرك بالارتقاء إلى أعلى المراتب يوم القيامة، ليس فقط بأن تكون معه على حوضه وإنما لتجلس مع الرحمن تحت ظلّ عرشه، وليس عليك إلا أن تكون واحدًا من هؤلاء السبعة كما قال ﷺ: “سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل تعلّق قلبه بالمساجد، ورجلان تحابّا في الله واجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه”.
إنه ومن أجل الوصول إلى هذه المرتبة وهذا الارتقاء للمقام الرفيع والسامي، فإنه لا بد من الارتقاء الإيماني كل يوم، ولأجل ذلك فلا بد من السير في طريق الهدى لا الهوى، والحق لا الباطل.
ولا بد من الاجتهاد للثبات على طريق الإسلام في الدنيا، فإنه السبيل للثبات على طريق جهنم في الآخرة، وعندها سيكون الطريق سريعًا وممهدًا للارتقاء إِلى تحت ظلّ عرش الله جلّ جلاله. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم اجعلنا ممن يستظلّون بظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلّك يا رب العالمين. نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.